الأسير الذي لم ينحنِ… جورج عبدالله إلى الحرية بعد 41 عاماً - شبكة أقطار الإخبارية

تحديثات

Thursday, July 17, 2025

الأسير الذي لم ينحنِ… جورج عبدالله إلى الحرية بعد 41 عاماً

 

في مشهد يختزل أربعة عقود من الصمود السياسي والتمسك بالموقف، خرج المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله من السجون الفرنسية، بعد أن قضى 41 عامًا خلف القضبان، ما جعله صاحب أطول فترة اعتقال سياسي في القارة الأوروبية. هذا الإفراج لم يكن قرارًا قضائيًا عاديا، بل جاء بعد نضال سياسي وشعبي طويل، عبّرت فيه قضيته عن مواجهة مفتوحة بين إرادة الحرية ومؤسسات القمع السياسي، وبين كرامة الفرد ومنظومة الهيمنة الغربية.

 

وُلد عبد الله في بلدة القبيات، في قضاء عكار شمال لبنان عام 1951، وسط بيئة ريفية محافظة من حيث التقاليد، لكنها كانت مفتوحة سياسيًا على التيارات الفكرية التي عصفت بلبنان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. التحق في شبابه المبكر بالحركة الوطنية اللبنانية، ثم انضم لاحقًا إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، حيث تلقى تدريبات عسكرية وسياسية، قبل أن يصبح أحد الوجوه البارزة في العمل المقاوم الماركسي، خصوصًا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

 

في تلك الفترة العاصفة، شارك جورج عبد الله في تأسيس "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" وهي مجموعة سرّية ماركسية التوجه، تبنّت عدة عمليات نوعية استهدفت دبلوماسيين أمريكيين وإسرائيليين، اعتُبرت من قبل مناصريها ردًا على الغزو الإسرائيلي للبنان، وعلى الدعم الأمريكي المفتوح للعدوان. ومن أبرز العمليات التي نُسبت إلى المجموعة اغتيال الدبلوماسي الأمريكي تشارلز راي والدبلوماسي الإسرائيلي ياكوف بارسيمانتوف في باريس.

 

في أكتوبر 1984، أوقفت السلطات الفرنسية جورج عبد الله في مدينة ليون، بتهمة حيازة جواز سفر مزوّر. لاحقًا، وُجهت إليه اتهامات بالمشاركة في عمليات اغتيال، وتمت محاكمته في أجواء سياسية مضطربة، حيث لعبت الضغوط الأمريكية والإسرائيلية دورًا كبيرًا في تشديد العقوبة. صدر الحكم ضده بالسجن مدى الحياة عام 1987، في قضية اعتبرها كثيرون منحازة سياسيًا وخالية من الأدلة الحاسمة.

 

ورغم أن القانون الفرنسي يجيز الإفراج المشروط عن السجناء بعد مرور 15 عامًا من العقوبة، فإن جورج عبد الله تقدّم منذ عام 1999 بعدة طلبات للإفراج عنه، جميعها قُوبلت بالرفض، ليس لأسباب قانونية، بل بتدخل مباشر من السلطات السياسية، خصوصًا الخارجية الأمريكية، التي كانت ترسل مذكرات اعتراض رسمية في كل مرة يُنظر فيها بطلب الإفراج. في عام 2013، أصدر القضاء الفرنسي قرارًا بالموافقة على الإفراج المشروط، شريطة ترحيله إلى لبنان، لكن وزير الداخلية الفرنسي آنذاك رفض توقيع أمر الترحيل، ما شكّل تجاوزًا سافرًا لاستقلالية القضاء، بحسب تقارير حقوقية فرنسية.

 

لم يكن عبد الله نزيلًا اعتياديًا، بل أسيرًا سياسيًا بكل ما للكلمة من معنى. طوال سنوات سجنه، رفض التنازل عن قناعاته أو الاعتذار عن نضاله، وظل يرفض المثول أمام لجان "التأهيل"، لأنها تطلب منه التوبة عن "الإرهاب"، وهو ما كان يراه خيانة لنضاله وتاريخه. كتب رسائل عديدة من داخل الزنزانة، كانت تنشرها الصحف اليسارية العالمية، وعبر فيها عن رؤيته للصراع الطبقي، وموقفه من الهيمنة الإمبريالية، وتضامنه مع كل قوى التحرر في العالم، من فلسطين إلى أمريكا اللاتينية.

 

تحوّلت قضيته إلى رمز أممي. في فرنسا، كان آلاف المتظاهرين يشاركون كل عام في مسيرات تطالب بإطلاق سراحه. وفي لبنان، اعتُبر "أسير الشرف"، وتحوّل بيته في القبيات إلى مزار للمقاومين والناشطين، وشكّلت قضيته جسرًا نادرًا لوحدة اليسار والقوى الوطنية والإسلامية على حد سواء. بل إن منظمات حقوقية كبرى، مثل "أمنستي" و"هيومن رايتس ووتش"، طالبت بالإفراج عنه باعتباره محتجزًا تعسفيًا لأسباب سياسية.

 

اليوم، وبعد أكثر من أربعة عقود، يخرج جورج عبد الله من زنزانته، وفي قلبه لبنان آخر، تغيّر فيه كل شيء تقريبًا، لكنه لم يتغيّر هو. ما يزال يحمل ذات الوعي الثوري، بذات اللغة التي لا تُهادن، وبنفس الإيمان بأن الكرامة لا تُساوَم، وأن الحبس لا يهزم الفكرة، بل قد يمنحها خلودًا استثنائيًا. وما بين لحظة الاعتقال في شتاء 1984 ولحظة الإفراج في صيف 2025، ظل اسم جورج عبد الله محفورًا في الذاكرة النضالية كحكاية صبر وصلابة، ونموذج للثبات في زمن التسويات والانهيارات.