في أحد شوارع صنعاء المزدحمة، يقف محمد البائع المتجول وهو يعدّ ريالاته الورقية بعناية. "الدولار بـ530 ريالاً فقط"، يقولها بفخر وكأنه يقدم عرضاً لا يُرفض. على بعد مئات الكيلومترات جنوباً، في عدن، تنهمر دموع فاطمة وهي تحسب رواتب أبنائها التي لم تعد تكفي حتى لشراء كيس من الطحين. "الدولار وصل إلى 2800 ريال"، تهمس بصوت مكسور.
هذه ليست قصة
عملتين مختلفتين، بل قصة عملة واحدة - الريال اليمني - تحولت إلى كيانين مختلفين
تماماً في بلد واحد ، قصة ترويها الأرقام بكل وضوح : بينما يشتري سكان صنعاء
الدولار بـ530 ريالاً، يحتاج مواطنو عدن إلى ما يقارب ستة أضعاف هذا المبلغ للحصول
على نفس الدولار.
جذور الأزمة
يعود هذا الانقسام النقدي الغريب إلى عام 2016، عندما انقسم البنك المركزي اليمني نفسه إلى كيانين: واحد في صنعاء تحت سيطرة الحوثيين، وآخر في عدن تابع للحكومة المعترف بها دولياً. منذ ذلك الحين، بدأت العملة الوطنية تفقد وحدتها رويداً رويداً.
في صنعاء،
اختار الحوثيون نهجاً صارماً. قاموا بتثبيت سعر الصرف بقوة القانون، ومنعوا تداول
الدولار في السوق المحلية، وفرضوا غرامات باهظة على كل من يخالف السعر الرسمي.
"الدولار بـ530 ريالاً.. هذه ليست توصية بل أمر لا يقبل النقاش"، يقول
أحد مسؤولي البنك المركزي في صنعاء بلهجة حاسمة.
الوجه الآخر
للعملة
لكن في عدن، كانت الصورة مختلفة تماماً. مع استمرار الحرب وتزايد الحاجة إلى العملة الصعبة، بدأ الريال يفقد قيمته بسرعة مخيفة. "كنا نشهد انهياراً يومياً"، يتذكر أحد موظفي البنك المركزي في عدن. "في الصباح كان الدولار بـ1500 ريال، وفي المساء يصبح بـ1700".
المفارقة
الأكثر إيلاماً أن كلا الجانبين كانا يطبعان الريال اليمني، لكن بأساليب مختلفة.
في صنعاء، اقتصرت الطباعة على استبدال العملات التالفة وبكميات محدودة. أما في
عدن، فكانت المطابع تعمل ليل نهار لطباعة أوراق نقدية جديدة لمجاراة النفقات
المتزايدة.
تداعيات على
الأرض
هذا الانقسام النقدي خلق واقعاً اقتصادياً غريباً. أصبح للتجار في اليمن سجلات محاسبية مزدوجة: واحدة للمعاملات مع صنعاء، وأخرى للمعاملات مع عدن. "أحياناً نرفض التعامل بالريال الصنعاني خوفاً من الخسارة"، يقول تاجر مواد غذائية في تعز.
أما المواطنون
العاديون، فكانوا الضحية الأكبر. تحولت تحويلات المغتربين إلى كابوس، حيث تختلف
قيمتها بشكل كبير حسب المدينة التي سيتم إرسالها إليها. "تحويلي الشهري الذي
كان يكفي عائلتي لمدة شهرين، أصبح بالكاد يكفي لثلاثة أسابيع"، يشكو مغترب
يمني في السعودية.
مستقبل مجهول
اليوم، وبعد سنوات من هذا الانقسام، لم يعد أحد يعرف ما إذا كان الريال اليمني سيستعيد وحدته يوماً ما. الخبراء الاقتصاديون يحذرون من أن استمرار هذه الحالة قد يؤدي إلى انهيار كامل للنظام النقدي في البلاد.
""المأساة الحقيقية أن اليمنيين باتوا يعيشون في واقعين اقتصاديين مختلفين داخل حدود دولة واحدة"، يقول أحد الخبراء الاقتصاديين، مضيفًا: "الأمر لا يقتصر على الانقسام النقدي فحسب، بل يشمل أيضًا تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، من أسعار السلع إلى قيمة الرواتب وفرص العمل".
بينما تستمر المطابع في العمل، والمحافظ النقدية في التضخم، تبقى التساؤلات معلقة: إلى متى سيستمر هذا الوضع الغريب؟ وهل سيكون هناك يوم يعود فيه الريال اليمني إلى كونه عملة واحدة لشعب واحد؟ أسئلة تنتظر إجابات في بلد لم يعد يعرف سوى لغة الانقسام.
