شعب سوريا العظيم،
إن الأحداث الأخيرة التي شهدتها
محافظة السويداء قد شكّلت انعطافة خطيرة في الوضع الأمني والسياسي في سوريا، حيث
تطوّرت النزاعات بين مجموعات خارجة عن القانون من جهة، وبين البدو من جهة أخرى، ما
أدّى إلى تفاقم الأوضاع بشكل غير مسبوق. بدأت الأحداث بتصاعد الاشتباكات العنيفة
بين هذه المجموعات، والتي كادت أن تخرج عن السيطرة لولا تدخّل الدولة السورية التي
تمكّنت من تهدئة الأوضاع، رغم صعوبة الوضع. لكن التدخل الإسرائيلي أعاد توتير
الأحداث، ودفع البلاد إلى مرحلة خطيرة تهدد استقرارها، نتيجة القصف السافر للجنوب
ولمؤسسات الحكومة في دمشق.
وعلى إثر هذه الأحداث، تدخلت الوساطات الأمريكية والعربية في
محاولة للوصول إلى تهدئة الأوضاع. في ظل هذه الظروف المعقّدة، ورغم تحذيرنا
المستمر بأن غياب الدولة السورية في تلك المناطق سيؤدي إلى فوضى عارمة قد تعيد
اشتعال الاشتباكات بشكل أوسع، إلا أن ما حدث بالفعل كان هو الأسوأ. ومع خروج
الدولة من بعض المناطق، بدأت مجموعات مسلحة من السويداء بشنّ هجمات انتقامية عنيفة
ضد البدو وعائلاتهم، ما أدى إلى تهجير جماعي للسكان وخلق حالة من الرعب والفوضى.
هذه الهجمات الانتقامية، التي ترافقت مع انتهاكات لحقوق
الإنسان، دفعت باقي العشائر العربية إلى التوافد لفك الحصار عن البدو داخل
السويداء، مما أدى إلى تصاعد التوترات وتغيّرات كبيرة في المشهد الأمني في سوريا.
وفي ظل هذا المشهد المأساوي، تلقّت الحكومة السورية العديد من الدعوات الدولية
للتدخل مجددًا من أجل وقف ما يجري وفرض الأمن والاستقرار في البلاد.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى ما يلي:
أولًا، إن المصالح الضيقة لبعض
الأفراد في السويداء ساهمت في حرف البوصلة، حيث ظهرت طموحات انفصالية لدى بعض
الشخصيات التي استقوت بالخارج، وقادت مجموعات مسلحة تمارس القتل والتنكيل بشكل
متسارع. ورغم أن الدولة السورية وقفت إلى جانب السويداء بعد تحرير سوريا، وحرصت
على دعمها وتقديم الخدمات الأساسية لها، إلا أن هذه الشخصيات وقوى الفوضى أساءت
لتلك المدينة ولدورها في الاستقرار الوطني. إن الاستقواء بالخارج واستخدام بعض
الأطراف الداخلية للسويداء كأداة في صراعات دولية لا يصب في مصلحة السوريين عامة،
بل يفاقم الأزمة ويهدد وحدة البلاد.
ثانيًا، لطالما كانت العشائر العربية في سوريا رمزًا للقيم
والمبادئ النبيلة التي تدفعها للنفير ومساعدة المظلومين، وقد أثبتت العشائر عبر
تاريخها مواقفها المشرّفة في الوقوف إلى جانب الدولة السورية، وتقديم الدعم
والتضحية في مواجهة التحديات التي مرّت بها البلاد. كما كانت العشائر في العديد من
الأوقات حائط صدّ للتهديدات الخارجية والداخلية، وأداة فاعلة في الحفاظ على وحدة
البلاد واستقرارها. وعلى الرغم من موقف العشائر المشرف، فإن بعض هذه المجموعات قد
حاولت أن تدافع عن نفسها بشكل منفرد في مواجهة التحديات والتهديدات التي تعرّضت
لها، ورغم تفهّمنا للدوافع الإنسانية خلف هذه المحاولات، إلا أنه من المهم التأكيد
أن هذه التصرفات لا يمكن أن تكون بديلًا عن دور الدولة في إدارة شؤون البلاد وبسط
الأمن. فالدولة السورية هي وحدها القادرة على الحفاظ على هيبتها وسيادتها في كل
بقعة من الأراضي السورية. إننا إذ نشكر العشائر على مواقفها البطولية، فإننا
ندعوها إلى الالتزام التام بإيقاف إطلاق النار، والامتثال لأوامر الدولة. وعلى
الجميع أن يتفهم أن هذه اللحظة تتطلّب وحدة الصف والتعاون الكامل من أجل تجاوز ما
نمرّ به جميعًا، والحفاظ على بلدنا وأرضنا من التدخلات الخارجية أو الفتن الداخلية.
ثالثًا، نشكر ونثمّن الدور الكبير الذي قامت به الولايات
المتحدة الأمريكية في تأكيدها الوقوف إلى جانب سوريا في هذه الظروف الصعبة، وحرصها
على استقرار البلاد وإعادة إعمارها. كما لا يمكننا أن نغفل دور الدول العربية التي
قدّمت دعمًا فاعلًا في هذه المرحلة، وكذلك تركيا التي كانت جزءًا من الجهود
الإقليمية الرامية إلى دعم الاستقرار والتهدئة. وفي ذات السياق، فإن الاتحاد
الأوروبي وروسيا والصين قد اتخذوا مواقف قوية في رفضهم القصف الإسرائيلي
والانتهاكات المتكررة للسيادة السورية. هذا التوافق الدولي الذي أظهره هؤلاء
الشركاء يعكس الحرص المشترك على استقرار سوريا وسيادتها، ويؤكد التزامهم بعدم
السماح باستمرار أي تدخلات تهدد وحدة البلاد.
إن هذه المواقف الإيجابية لا تأتي إلا من خلال دبلوماسية فاعلة
وموحّدة استطاعت أن تربط مصالح سوريا بمصالح جيرانها والعالم بأسره، مما يعكس قدرة
سوريا على التأثير في محيطها الإقليمي والدولي، ويُثبت أن سوريا لا تزال في قلب
الأحداث العالمية، ويكمن دورها المحوري في تحقيق الاستقرار في المنطقة.
رابعًا، لا يجوز أن نحاكم الطائفة الدرزية بأكملها بسبب تصرفات
فئة قليلة انزلقت في مواقف لا تمثّل تاريخ هذه الطائفة العريقة. لقد كانت محافظة
السويداء ولا تزال جزءًا أصيلًا من الدولة السورية، كما أن الدروز يشكّلون ركنًا
أساسيًا من النسيج الوطني السوري. علينا أن ندرك أن أي محاولة لتفكيك وحدة الشعب
السوري أو إقصاء أي مكون من مكوناته تُعد تهديدًا مباشرًا لاستقرار سوريا. وقد
أثبتت الأحداث خلال الأشهر الماضية أن أبناء السويداء بجميع أطيافهم يقفون إلى
جانب الدولة السورية، ويرفضون مشاريع التقسيم، باستثناء مجموعة صغيرة تحاول دفعهم
بعيدًا عن هذا الموقف الوطني.
خامسًا، تلتزم الدولة السورية بحماية الأقليات والطوائف كافة
في البلاد، وهي ماضية في محاسبة جميع المنتهكين من أي طرف كان، ولن يفلت أي شخص من
المحاسبة. ونحن نبرأ من جميع الجرائم والتجاوزات التي جرت، سواء كانت من داخل
السويداء أو خارجها، ونؤكد على أهمية تحقيق العدالة وفرض القانون على الجميع. وإلى
الإخوة من أبناء الدروز والبدو، احرصوا على بعضكم البعض، فالجوار الذي جمعكم لقرون
طويلة، والروابط العميقة التي تجمعكم من تاريخ مشترك، وقرابة، ومصير واحد، ووطن
جامع، هي أسمى وأقوى من أن تعصف بها خلافات طارئة أو أحداث عابرة.
وفي هذا الظرف الحساس، تبرز الحاجة الماسّة إلى تغليب صوت
العقل والحكمة، وفتح المجال أمام العقلاء والحكماء من كلا الجانبين للقيام بدورهم
في رأب الصدع وتهدئة النفوس وإصلاح ذات البين. كما يجب التصدي بحزم لكل من يسعى
لإثارة النعرات أو إذكاء نار الطائفية أو الترويج لخطاب الثأر والانتقام. وإن
الدولة السورية، انطلاقًا من مسؤولياتها الوطنية، ستقف بكل ما أوتيت من قوة
وإمكانات إلى جانب كل جهد يسهم في المصالحة، حرصًا منها على السلم الأهلي ووحدة
المجتمع واستقراره.
وفي الختام، تؤكد الوقائع أن سوريا ليست ميدانًا لتجارب مشاريع
التقسيم أو الانفصال أو التحريض الطائفي. فقد اختار البعض طريق الاختلاف
والانفصال، واصطدموا بنتائج مأساوية أثبتت خطورة هذا المسار. واليوم بات من
الضروري العودة إلى جادة الصواب، والالتقاء على أرضية وطنية جامعة تُشكّل المنصة
الحقيقية لبناء مستقبل سوريا. فإن قوة الدولة السورية تنبع من تماسك شعبها، ومتانة
علاقاتها الإقليمية والدولية، وترابط مصالحها الوطنية، ما يرسّخ استقرارها ويعزز
نهضتها على المدى البعيد. ولا يفوتني أن أترحّم على شهداء الوطن، ممن قضوا للدفاع
عن وحدة أرضهم ونصرة المظلومين، وعلى ضحايا الفتنة، أسأل الله أن يتقبلهم في
جنانه، وأن يعافي الجرحى ويشافيهم.
والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
