ديفيد بن غوريون: المؤسس الأول لإسرائيل بعيون عربية - شبكة أقطار الإخبارية

تحديثات

Thursday, July 17, 2025

ديفيد بن غوريون: المؤسس الأول لإسرائيل بعيون عربية

 

في التاريخ الحديث، قلّما يظهر اسم ارتبط بنشوء كيان، كما ارتبط اسم ديفيد بن غوريون بقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي. يُنظر إليه في السرديات الغربية على أنه الأب المؤسس لإسرائيل، بينما في الوعي العربي يُستحضر اسمه كرمز لبداية النكبة، والعدوان، وتشريد الشعب الفلسطيني. حياته وسيرته ليست مجرد حكاية رجل سياسي، بل قصة مشروع استعماري مُحكم، تجسّد فيه الصراع بين حركة استعمارية مدعومة، وأمة تبحث عن حريتها وبقائها.

 

من بولندا إلى فلسطين

وُلد بن غوريون باسم "دافيد غرين" في 16 أكتوبر 1886 في مدينة بلوغر التابعة للإمبراطورية الروسية آنذاك (حاليًا بولندا). نشأ في كنف عائلة يهودية متدينة، وكان والده ناشطًا في الحركة الصهيونية، ما زرع في داخله مبكرًا الحلم بإقامة وطن لليهود في فلسطين، أرض لم يكن قد زارها بعد، لكنها كانت حاضرة في خطاب الحركة الصهيونية منذ مؤتمر بازل عام 1897.

في مطلع شبابه، انخرط ديفيد في نشاط سياسي صهيوني مكثف، ثم هاجر إلى فلسطين العثمانية عام 1906، حيث عمل في الزراعة، وكان جزءًا من الجيل الأول من المستوطنين اليهود الذين بدأوا بتأسيس نواة الوجود اليهودي المنظم في الأراضي الفلسطينية.

 

التحول من مهاجر إلى زعيم

مع نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، بدأ المشروع الصهيوني يكتسب زخمًا كبيرًا، خاصة بعد وعد بلفور عام 1917، والذي تعهدت فيه بريطانيا بإقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين". أدرك بن غوريون أهمية اللحظة، فانخرط في بناء المؤسسات اليهودية، وشارك في تأسيس منظمة "الهستدروت" (اتحاد العمال اليهود)، وارتبط اسمه فيما بعد بـ "الوكالة اليهودية"، الذراع التنفيذية للحركة الصهيونية في فلسطين.

كان بن غوريون يتمتع بقدرة تنظيمية عالية، ورؤية واضحة لمشروع إقامة الدولة. عمل على جلب المهاجرين، وتسليح المجتمعات اليهودية، وتشكيل وحدات مسلحة كـ "الهاغاناه" التي شكّلت لاحقًا النواة الأساسية للجيش الإسرائيلي.

 

إعلان الدولة والنكبة

في 14 مايو 1948، وقف ديفيد بن غوريون في تل أبيب، ليعلن قيام "دولة إسرائيل"، معتمدًا على دعم دولي واسع، وبخاصة من بريطانيا والولايات المتحدة. في اليوم التالي مباشرة، بدأت النكبة الفلسطينية، حيث شنّت العصابات الصهيونية حملات تطهير عرقي ممنهجة على القرى والمدن الفلسطينية، فهُجّر أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم، ودُمّرت مئات القرى، فيما سُفك الدم الفلسطيني بغزارة.

كان بن غوريون القائد السياسي والعسكري للمشهد، فكل قرار أمني أو استيطاني كان يصدر بتوجيه مباشر منه، بل إن الكثير من الوثائق التاريخية تشير إلى معرفته التامة بما كان يجري من مجازر، مثل مذبحة دير ياسين، ومذابح اللد والرملة، ومع ذلك لم يتخذ أي خطوة لوقفها. بالعكس، استخدم هذه العمليات كأداة لإرهاب الفلسطينيين ودفعهم نحو النزوح الجماعي.

 

سياسات التأسيس والقوة

خلال فترته في رئاسة الحكومة (1948–1954، ثم 1955–1963)، عمل بن غوريون على ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة. أطلق مشاريع تهويد الأرض، وجلب مئات الآلاف من المهاجرين اليهود من أوروبا والعالم العربي، وصهرهم في "بوتقة إسرائيلية" موحدة بالقوة، وبإقصاء كل ما هو عربي أو فلسطيني.

تبنّى سياسة "الردع" في التعامل مع الدول العربية، وأسّس عقيدة عسكرية عدوانية تقوم على الضربات الاستباقية والرد الجماعي، وهي السياسات التي أدت لاحقًا إلى حروب متعاقبة بين إسرائيل والدول العربية، أبرزها العدوان الثلاثي على مصر في 1956.

كما رفض حق العودة للفلسطينيين، وأصر على أن الفلسطينيين الذين هجّروا في 1948 لا يمكن أن يعودوا، معتبراً أن عودتهم تشكّل "خطرًا وجوديًا" على الدولة اليهودية، ما جعله من أبرز مهندسي التهجير الديمغرافي المستمر حتى اليوم.

 

عداؤه للهوية العربية والفلسطينية

من منظور عربي، يُعتبر بن غوريون شخصية استعمارية بامتياز. لم يكن يؤمن بأي صيغة للتعايش أو الشراكة مع الفلسطينيين. كان يؤمن أن الأرض يجب أن تكون لليهود فقط، وأن على العرب أن يرحلوا أو يُقهروا. حتى داخل إسرائيل، سعى إلى إذابة العرب القلائل الذين بقوا بعد النكبة في نظام يهمّشهم سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا.

ورغم محاولة بعض المؤرخين تلميع صورته، إلا أن الوثائق التي نشرت لاحقًا أكدت أنه كان يخطط منذ البداية لـ "إفراغ فلسطين من سكانها العرب"، وأن النكبة لم تكن نتيجة حرب، بل كانت خطة ممنهجة ومرسومة مسبقًا".

 

اعتزاله ووفاته

في سنواته الأخيرة، اعتزل بن غوريون الحياة السياسية، وانتقل إلى صحراء النقب ليعيش هناك في مزرعة، وكأنه يحاول أن يجسّد حلم السيطرة على الجنوب. توفي في الأول من ديسمبر 1973، بعد شهرين من حرب أكتوبر التي كشفت هشاشة أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر".

 

بن غوريون في الوعي العربي

يظل اسم بن غوريون محفورًا في ذاكرة الأمة العربية كرمز للبداية الدامية، والبؤرة التي انطلقت منها سياسة الاحتلال والاستيطان والعدوان. هو من هندس المشروع الاستيطاني، وهو من قاد مرحلة النكبة، وهو من أسس لبنية سياسية وعسكرية جعلت من إسرائيل خطرًا مستمرًا على المنطقة بأسرها.

في نظر كثير من العرب، بن غوريون ليس مجرد زعيم سياسي، بل هو تجسيد لمشروع اغتصاب فلسطين، وتهجير أهلها، وسرقة حقهم في الأرض والهوية. ولا يمكن الحديث عن نكبة 1948 أو عن الصراع العربي–الإسرائيلي، دون الوقوف طويلاً عند اسمه ودوره.